ذكرابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في كتاب الفوائد تعليقاً عزيزاً لطيفاً عَلَى قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42] يقول في معنى كلامه: لا يوجد سبب من الأسباب مستقل بالتأثير، سواءً كَانَ السبب خيراً أو شراً، إلا أن يكون المؤثر والفاعل هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل سبب يستلزم وجود سبب آخر إِلَى أن تنتهي أسباب الخير وأسباب الشر، وكل ما يقع في الدنيا من خير أو شر، فالسبب وقوعه هو سبب آخر، والسبب الآخر سبب لآخر.. وهكذا تنتهي كلها إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولهذا إذا أردت أن تختصر الطريق كحال المؤمنين الموحدين المنيبين، فإنهم إن وقع لهم خير أو شر أيقنوا وعلموا أنه من الله، وأنه بقدر منه، أما الذين لا يؤمنون بالله ولا بالقدر فإنهم إذا وقع لهم هذا الشيء، قالوا: إنه بسبب آخر.
فمثال ذلك: الغبار الموجود.
قالوا: السبب في هذا الغبار الانخفاض الجوي.
فإذا قيل: ما سبب الانخفاض الجوي؟
قالوا: بداية فصل ونهاية فصل.
فإذا قيل: فما السبب في هذا وذاك؟
قالوا: دوران الأرض حول الشمس، أو ما أشبه ذلك.
فإذا قيل: ولماذا تدور، ولماذا..؟ أسباب ثُمَّ أسباب.. وهكذا إِلَى ما لا نهاية، أما المؤمن فيختصر ذلك كله.
ويقول: هذا من الله، دون أن ينكر تأثير الأسباب التي تنتهي إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي جعلها تؤثر وخلق فيها التأثير، ولهذا نجد أن ما يحسبه النَّاس أسباباً نهائية هو في الحقيقة من العلوم الدنيوية، وأن غاية ما يستطيع العلم البشري أن يفسره من الأحداث الكونية هو أن يبين كيف؟ لكن لماذا؟ هذا الذي تعجز عنه العقول وإن ادعوا، كيف يقع كذا فيمكن أن يعرف البشر كيف يقع؟ لكن لماذا يقع؟ هذا هو الذي يعجز النَّاس عن معرفته إلا المؤمنين.
مثال ذلك: السحاب يتبخر من البحر، ثُمَّ يرتفع في طبقات الجو العليا، ثُمَّ يبرد، ثُمَّ يهطل عَلَى منطقة كذا من المناطق، فيمكن معرفة كيف وقع وذلك، بأن تتابع هذه العملية متابعة محسوسة حتى تنتهي، لكن لماذا وقع؟
ولماذا في هذا اليوم بالذات؟
ولماذا من هذا البحر بالذات؟
ولماذا خرجت هذه السحابة في هذا الوقت وبهذه السرعة؟
ولماذا سارت ألف ميل أو عشرة؟
ولماذا أمطرت في هذا البلد بالذات؟
ولماذا أمطرت في جزء منه دون جزء؟
هذا الكلام لا يستطيع العلم البشري الإجابة عليه.
إذاً.. نعرف بذلك (أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)، وأن نهاية الأمور كلها هي لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه خالق الأسباب والمسببات.
إذاً.. كل شيء راجع إليه وحده لا إِلَى غيره أبداً.